الإمام مالك وانتشار المذهب المالكي
اختلف المؤرخون في ولادة الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، فمنهم قال عام 93 هجرية (وهو الأشهر) وقيل 94 هجرية وقيل 95 هجرية وقيل 96 هجرية في المدينة المنورة. وقد يرجع أسباب الاختلاف إلى اعتقاد البعض أن أم مالك حملته في بطنها ثلاث سنين! قال ابن عبد البر: وقد ذكر غير الواقدي أن أُم مالك حملت به ثلاث سنين (مناقب مالك للسيوطي ص 6). لم يكن أنس والد الإمام مالك معروفاً حيث لم يُذكر عن حياته في كتب التاريخ، بل حتى أن مالك نفسه لم يرو عنه، وجده أبو عامر كان تابعياً يمنياً نزل المدينة. ولم يكن مالك من أسرة علمية، إلا أن عمه كان مقرئاً.
واختلفوا في نسب مالك، لكن عامة الناس على أنه من العرب وليس من الموالي. ومع ذلك فقد طعن الكوثري الهالك في نسب الإمام مالكٍ، وجعله من الموالي لا من العرب، واستشهد بتسمية الإمام الزهري لعم الإمام مالك بـ"مولى التيميين". مع أن هذا لا يضر الإمام مالك –لو كان هذا الزعم صحيحاً– لقول الله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وسيأتي كيف أن الإمام مالك قد طعن في القاضي الثبت "سعد" لأنه تكلم في نسبه، وكذلك فعل مع الإمام ابن إسحاق، وقال عنه: «إنما هو دجال من الدجاجلة. نحن أخرجناه من المدينة». أي أن مالكاً قد جمع "الدجال" على "دجاجلة"، وهو جمع لم يكن سمع به ابن إدريس الكوفي، وظاهرٌ أنه لحن. جاء في لسان العرب (11|237) عن كلمة "دجال": «لـم يجمعه علـى "دجاجلة" إِلا مالك بن أَنس». ثم ذكر الكلمة الصحيحة مستشهداً بما قاله النبي t «فـي حديثه الصحيح فقال: "يكون فـي آخر الزمان دَجَّالون" أَي كَذَّابون مُـمَوِّهون، وقال: "إِن بـينَ يَدَي الساعة دَجَّالـين كَذَّابـين فاحذروهم". وقد تكرر ذكر الدجال فـي الـحديث، وهو الذي يظهر فـي آخر الزمان يَدَّعي الإِلهيَّة. وفَعَّال من أَبنـية الـمبالغة أَي يكثر منه الكذب والتلبـيس. قال الأَزهري: "كل كَذَّاب فهو دَجَّال، وجمعه دَجَّالون"».
وأياً كان، فإن الإمامَ مالك قد اتُّهِمَ باللّحن بالعربية. وقد اتهمه بذلك الإمام أبو عبد الرحمن النَّسائي، كما أخرجه الخطيب في الكفاية (2|555) بإسناد صحيح. كما أخرج الخطيب في كتاب "اقتضاء العلم العمل" (#157) قصة عن ابن أخت الإمام مالك، يقر فيها الإمام مالك على نفسه باللحن. وقد ذكر المبرَّد في كتاب "اللّحنَةَ" عن محمد بن القاسم عن الأصمعيّ (اللّغوي المشهور) قال: «دخلت المدينةَ على مالك بن أنس فما هِبْتُ أحداً هيبتي له، فتكلّم فَلَحَنَ، فقال: مُطِرْنا البارَحةَ مَطَراً أي مَطَراً، فَخَفّ في عيني. فقلت: يا أبا عبد الله، قد بَلَغْتَ من العلم هذا المبلغَ فَلَو أصلحتَ من لسانك. فقال: فكيفَ لو رأيتمُ ربيعةَ؟ كُنّا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيراً بخيراً. قال (الأصمعي): وإذا هو (مالك) قد جعلَهُ (جعل ربيعة) لنفسه قدوةً في اللّحْنِ وعذْراً». وهذا أخرجه الخطيب أيضاً في كتاب "الفقيه والمتفقه" (2|29) من وجه آخر عن الأصمعي، مما يعضد الرواية الأولى ويقويها. والأصمعي ثقة معروف بالدقة والتحري، كما قال المعلمي في التنكيل (1|331): «تجد في كتب اللغة ومعاني الشعر مواضع كثيرة يتوقف فيها الأصمعي، وذلك يدل على توقيه وتثبته».
قلت: وهذا لا يستغرب من ربيعة، فقد كان من الموالي. وليس في هذه القصة طعن بالإمام مالك كما زعم البعض، فإن اللحن ليس عيباً. «إنما العيب على من غلط من جهة اللغة فيما يغير به حكم الشريعة»، كما قال الإمام أبو بكر بن داود بن علي الظاهري تعليقاً على القصة السابقة. ومن تأمل عامة العلماء في ذلك العصر، لوجدهم من الموالي، ولوجد اللحن عندهم منتشراً. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته (ص543، ص337 ط. دار الهلال): فصلاً كاملاً «في أن حَملة العِلْم في الإسلام أكثرهم العجم». ولا يزال أكبر مذهب للمسلمين –منذ أيام الرشيد إلى يومنا هذا– هو مذهب أبو حنيفة الفارسي الأصل.
ومع ذلك تجده قد أفتى ببعض الأحكام الشرعية بعنصرية. فمثلاً قال مالك (عن مسألة تزويج المرأة بغير ولي): «أما الدنيئة كالسوداء أو التي أسلمت أو الفقيرة أو النبطية أو المولاة، فإن زَوَّجَها الجار وغيره –ممن ليس هو لها بولي– فهو جائز! وأما المرأة التي لها الموضع (أي الشرف) فإن وليها، فُرِّقَ بينهما. فإن أجاز ذلك الولي أو السلطان، جاز. فإن تقادم أمرها ولم يفسخ وولدت له الأولاد، لم يُفسَخ».
فرد عليه ابن حزم في المحلى (9|456): «وأما قول مالك فظاهر الفساد، لأنه فَرَّقَ بين الدَّنِيَّة وغير الدنية. وما عَلِمنا الدناءة، إلا معاصي الله تعالى. وأما السوداء والمولاة، فقد كانت أم أيمن –رضي الله عنها– سوداء ومولاة. و والله ما بعد أزواجه –عليه الصلاة والسلام– في هذه الأُمَّةِ امرأةٌ أعلى قدراً عند الله تعالى وعند أهل الإسلام كلهم، منها. وأما الفقيرة، فما الفقر دناءة. فقد كان في الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام– الفقير الذي أهلكه الفقر، وهم أهل الشرف والرفعة حقاً. وقد كان قارون وفرعون وهامان من الغنى بحيث عرف، وهم أهل الدناءة والرذالة حقاً. وأما النبطية، فرُبَّ نبطية لا يطمع فيها كثيرٌ من قريش، ليسارها وعلوِّ حالها في الدنيا. ورب بنت خليفة هلكت فاقةً وجهداً وضياعاً. ثم قوله "يفرق بينهما، فإن طال الأمر وولدت منه الأولاد، لم يفرق بينهما" فهذا عين الخطأ. إنما هو حق أو باطل، ولا سبيل إلى ثالث. فإن كان حقاً، فليس لأحدٍ نقض الحق إثر عقده، ولا بعد ذلك. وإن كان باطلاً، فالباطل مردود أبداً، إلا أن يأتي نص من قرآن أو سنة عن رسول الله r فيوقف عنده. وما نعلم قول مالك هذا، قاله أحدٌ قبله، ولا غيره، إلا من قلده. ولا مُتَعَلَّقٌ له بقرآنٍ ولا وسنةٍ صحيحةٍ ولا بأثرٍ غير ساقطٍ ولا بقول صاحبٍ ولا تابعٍ ولا معقولٍ ولا قياسٍ ولا رأيٍ له وجهٌ يُعرف».
أصبح الإمام مالك فقيهاً وأخذ يفتي، بعد أن قارب الأربعين (مالك لأبي زهرة ص47)، وتعرض لكثير من السخرية لمخالفته من هم أعلم منه. قال سعيد بن أيوب: «لو أن الليث ومالك اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد»! (الرحمة الغيثية لابن حجر ص6). ونقل ابن عبد البر المالكي في "جامع بيان العلم وفضله" (2|1109) عن سلمة بن سليمان (ثقة ثبت) قال: قلت لابن المبارك (فقيه خراسان): «وضعتَ من رأي أبي حنيفة، ولم تضع من رأي مالك؟». قال: «لم أره (أي: رأي مالك) عِلْماً».
بالمقابل فقد قال أتباع مالك كلاماً كثيراً فيه بلغ حد المبالغة. حيث قالوا أنه مكتوب على فخذ مالك أن مالكَ حُجّة الله! وقالوا أنه لا يدخل الخلاء إلا مرة كل ثلاثة أيام لأنه يستحي! وقالوا أنهم رأوا في المنام أخبار عن أمواتهم أنهم لما ماتوا وجاء الملَكين إليهم لمحاسبتهم، ظَهَرَ مالك لهما وصرفهما عن الموتى! (انظر مشارق الأنوار للعدوي ص288). وذكر البعض أنهم رأوا في المنام النبي r فقالوا له أن مالك والليث يختلفان فمن هو الأعلم؟ فقال النبي r: مالك وارث جدي إبراهيم! (مناقب مالك للزاوي ص18). وقيل أنهم سئلوا النبي r من بعدك؟ فقال: مالك!
ومالك –وإن كان ثقة في الحديث– فهو صاحب رأي، أخذه من شيخه ربيعة الرأي (قيل 136، وقيل 142هـ). وربيعة صاحب رأي مشهور به حتى صار جزءاً من اسمه. وقد تألّم سعيد بن المسيّب –شيخ فقهاء أهل الحديث في المدينة– من ربيعة الرأي لما اعترض على برأيه على السنة في دية الأصابع. فقال سعيد: «أعراقي أنت؟ (لشهرة أهل العراق بالرأي) إنها السنة». ومع حب أهل المدينة لربيعة واحترامهم له، فقد كانوا يكرهون إفراطه بالرأي. قال محمد بن سعد: «كانوا يتقونه لموضع الرأي». وروى عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (#4596) عن أبيه: قال سفيان بن عيينة: «ثلاثة أولاد سبايا الأمم يعجبون برأيهم: بالبصرة عثمان البتي، وبالمدينة ربيعة الرأي، وبالكوفة أبو حنيفة». وقريباً منه في "سؤالات ابن هانئ" (#2099). وربيعة الرأي –رحمه الله– هو الذي أخذ عنه الإمام مالك الفقه، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. كما أن أبا حنيفة أخذ الفقه عن حماد، فتوسع بالرأي أكثر من شيخه. قال مصعب بن عبد الله عن ربيعة الرأي: «عنه أخذ مالك بن أنس». وهو أمر يقر به الإمام مالك، حتى أنه روى عنه ابن اخته مطرف قوله: «ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن».
وقد تكلم بعض أهل الحديث في مالك في هذا، مع توثيقهم لإياه في الحديث. وأهل الحديث عندما يمدحون مالكاً فإنهم غالباً يقصدون ثقته في الحديث وعلو إسناده ووثاقة رجاله. لكن بعضهم كان يذم رأيه. وقد لخص أحمد رأيه بمالك فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف».
إذ روى الخطيب في تاريخ بغداد (13|445) عن إبراهيم بن إسحاق الحربي (ثقة فقيه) قال: سمعت أحمد بن حنبل أنه سُئل عن مالك، فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف». فانظر لإنصاف إمام أهل الحديث في عصره، كيف فرّق بين قوة حفظ مالك للحديث وبين ضعف رأيه. وقال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار". فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه». ثم قال أحمد: «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك». أي أن أحمد موافق لفتوى ابن أبي ذئب في استتابة مالك. والحديث السابق أخرجه الإمام مالك في موطأه وصرح بأنه لا يعمل به! مع أنه حديث صحيح مشهور بين علماء المدينة، حتى قال عنه الإمام أحمد (كما في العلل 1|539): «هذا خبر موطوء (مشهور) في المدينة».
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سُئِلَ ابن المبارك: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: «أبو حنيفة (أفقه من مالك)». وفي تاريخ بغداد (13|343) عن محمد بن مقاتل (أبو الحسن الكسائي، ثقة متقن) قال: سمعت ابن المبارك قال: «إن كان الأثر قد عُرِفَ واحتيج إلى الرأي، فرأي: مالك وسفيان وأبي حنيفة. وأبو حنيفة: أحسنهم وأدَقّهم فِطنةً وأغوصهم على الفقه. وهو أفقه الثلاثة». وابن المبارك من كبار أئمة الإسلام. قال عنه ابن حجر: «ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير». و قال عن ابن حبان: «كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها». و قال ابن عيينة: «نظرت في أمر الصحابة، فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك، إلا بصحبتهم النبي r و غزوهم معه». بل إن مالك نفسه كان يعظمه ويقول عنه: «فقيه خراسان». وقد صاحب ابن المبارك هؤلاء الثلاثة.
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله" (2|1080) عن الليث بن سعد أنه قال: «أحصيتُ على مالك بن أنس سبعينَ مسألة، كلها مخالفة لسُنة رسول الله r مما قال فيها برأيه. ولقد كتبت إليه أعِظهُ في ذلك». وسيأتي بيان فضل الليث على مالك في الفقه، كما نص الشافعي وغيره، وأقر ذلك بعض كبار تلاميذ مالك المنصفين. ونقل ابن عبد البر (2|1105) عن المروزي قال: «وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق، لشيءٍ بلَغَه عنه تكلّم به في نَسَبه وعِلْمه».
وقال ابن عبد البر (2|1115): «وقد تكلّم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلامٍ فيه جفاء وخشونة، كرهتُ ذِكره، وهو مشهورٌ عنه. قاله إنكاراً لقول مالك في حديث البيِّعين بالخيار...، وتكلم في مالك أيضاً -فيما ذكره الساجي في كتاب "العلل": عبد العزيز بن أبي سلمة (ثقة مدني، قال أشهب: هو أعلم من مالك. وهذه شهادة أحد أكبر فقهاء المالكية في مصر)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (رجل صالح له تفسير)، وابن إسحاق (إمام المغازي)، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد (نبيل عالم بالقرآن، ولم يكن بالحافظ)، وعابوا عليه أشياء من مذهبه. وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد. وتحامل (!) عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسَداً (!) لموضع إمامته. وعابَهُ قوم في إنكاره المسح على الخفَّين في الحضر والسفر (رغم تواتر تلك السنة)، وفي كلامه في علي وعثمان (رضي الله عنهما)، وفتياه إتيان النساء من الأعجاز (أي في أدبارهن)، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله r. ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذِكره».
وابن عبد البر مالكي المذهب، لم يسرد هذه الأقوال ليطعن بالإمام مالك –وحاشاه–. إنما ذكرها ليُبَيِّنَ أن مالكاً قد طعن به أهل الحديث بسبب كراهيتهم للرأي. ولكن مالك شفع له عندهم أنه كان ثبتاً في الحديث، وما استطاعوا الاستغناء عن حديثه. ونفس الشيء تكرر مع عدد من أئمة أهل الرأي مثل سفيان الثوري (ذكره الترمذي في أهل الرأي) وغيره من علماء الكوفة. نقل ابن عبد البر قول أحمد لما قيل له: «أليس مالك تكلم بالرأي»؟ قال: «بلى، ولكن أبو حنيفة أكثر رأياً منه». ولذلك فإن الإمام ابن قتيبة (خطيب أهل السنة) في كتابه "المعارف" قد ذكر مالك في أصحاب الرأي، ولم يذكره مع أصحاب الحديث. فكان غالب كلامهم على أبي حنيفة الذي لم يكن عنده كثير الحديث، وما كان يعتني بألفاظه. فشاع عند بعض المتأخرين أن أبا حنيفة وحده كان صاحب رأي، والصواب أن مالكاً كذلك. إلا أن الشذوذ في مذهب مالك أقل، لاعتماده –في الغالب– على عمل أهل المدينة. علماً بأن العلامة ابن عابدين الحنفي ذكر في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" أن أقرب المذاهب لمذهب الإمام أبي حنيفة هو مذهب الإمام مالك. والسبب أن كليهما من أصحاب الرأي، رحم الله الجميع وعفا عنهم.
ثم ليس المقصود –بمقولة الإمام أحمد– أن الإمام مالك هو أحفظ الناس. وإنما كان ثقةً ثبتاً، لكنه أخطأ في عدة أحاديث. حتى أن سفيان الثوري يقول (كما في تاريخ بغداد 9|164): «مالك ليس له حفظ»، ويقصد مقارنة بأئمة أهل الحديث الكبار. وذكر أبو نعيم الحافظ عن الإمام علي بن المديني قال سألت يحيى بن سعيد (الإمام المعروف)، قلت له: «أيما أحب إليك: رأي مالك أو رأي سفيان؟» (وكلاهما من ثقات أهل الرأي كما هو معلوم). قال: «سفيان. لا يُشَكُّ في هذا! سفيان فوق مالك في كل شيء». وقال الإمام يحيى بن معين –كما في تاريخ بغداد (9|164)–: «سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إليّ من مالك في كلّ شيء. يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد».
قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1|223): «قد ذكر بعض العلماء أن مالكاً عابه جماعة من أهل العلم في زمانه، بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة»، ثم ذكر أمثلة على ذلك. ثم ذكر ممن عابه: ابن أبي ذئب، وعبد العزيز الماجشون، وابن أبي حازم، ومحمد بن إسحاق. وقد ناظره عمر بن قيس –في شيء من أمر الحج بحضرة هارون– فقال عمر لمالك: «أنت أحياناً تخطئ، وأحياناً لا تصيب». فقال مالك: «كذاك الناس»!
وقد طعن الإمام مالك في إمام المغازي محمد بن إسحاق، واتهمه بأنه "دجال من الدجاجلة"، لمجرد أنه تكلم في نسبه. مع أن هذا الأمر قد اختلف فيه اختلافاً كبيراً. جاء في سير أعلام النبلاء (8|71): «قال القاضي عياض (مالكي المذهب): أختلف في نسب "ذي أصبح" اختلافاً كثيراً. وروي عن ابن إسحاق أنه زعم أن مالكاً وآله موالي بني تيم، فأخطأ. وكان ذلك أقوى سبب في تكذيب الإمام مالك له وطعنه عليه». وابن إسحاق مسبوق بالإمام الزهري، كما سبق بيانه.
في تهذيب التهذيب (3|403): قال الساجي: ويُقال إن سعداً (يقصد قاضي المدينة الثقة الثبت الإمام سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) وعَظَ مالكاً فوجد عليه، فلم يروِ عنه. حدثني أحمد بن محمد سمعت أحمد بن حنبل يقول: «سعدٌ ثقة». فقيل له: «إن مالكاً لا يحدِّث عنه». فقال: «من يلتفت إلى هذا؟! سعد ثقة، رجل صالح». حدثنا أحمد بن محمد سمعت المعيطي يقول لابن معين: «كان مالك يتكلم في سعد، سيّد من سادات قريش. و يروي عن ثور و داود بن الحصين، خارجيّين خبيثين!»... وقال أحمد بن البرقي: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد أنه كان يرى القدر وترك مالك الرواية عنه. فقال: «لم يكن يرى القدر، وإنما ترك مالك الرواية عنه لأنه تكلم في نسب مالك (وقد تقدم أن هذه مسألة خلافية)، فكان مالك لا يروي عنه. وهو (أي سعد) ثَــبْتٌ لا شك فيه». انتهى.
كما أن الإمام مالك –غفر الله له– قد طعن بشدة في الإمام أبي حنيفة بغير أن يذكر سبباً. قال مالك (كما في كامل ابن عدي 7|6): «الداء العضال: الهلاك في الدين. وأبو حنيفة من الداء العضال». أقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. أيكون فقه الإمام أبي حنيفة هو هلاكاً للدين؟ فما حكم المسلمين الذين يعتنقون مذهبه؟ وقال مالك بن أنس (كما في ضعفاء العقيلي 4|281): «إن أبا حنيفة كادَ الدين، ومن كادَ الدين فليس له دين». ولا حول ولا قوة إلا بالله. الإمام النعمان ليس له دين! هذا عدا عن طعن الإمام مالك بإمام الشام الأوزاعي، مما ذكره ابن عبد البر في كتابه السابق.
وهنا يجب التنبيه على أن الإمام مالك لا يمثل بالضرورة فقه أهل المدينة كلهم، كما يزعم أتباعه. فهو له آراء واجتهادات تفرد بها. والمدينة فيها الكثير من الفقهاء من طبقته، ما وافقوه في كل اجتهاداته. فاختزال كل مذاهب هؤلاء الأئمة في مذهب الإمام مالك، ظلم لهم. ولعل أول من خلط بين الأمرين هو الإمام محمد بن الحسن في كتابه "الحجة على أهل المدينة"، فرد عليه الإمام الشافعي، وبين له أن كثيراً من تلك المسائل لم يوافق بها مالك أهل مدينته، فكيف يمثّلهم؟! ومن هنا فقضية إجماع أهل المدينة التي يتمسك بها المالكية، غير مسلمة لهم. ولا بد من الإتيان بدليل من الكتاب والسنة.
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (8|156) عن الشافعي أنه قال: «الليث أفقه من مالك، ولكن الخطوة لمالك». وقال: «الليث أتبع للأثر من مالك». وفي تاريخ بغداد (2|298) عن أحمد بن حنبل قال: «كان ابن أبي ذئب ثقة صدوقاً، أفضل من مالك بن أنس». وفي (2|175) عن يحيى بن صالح قال: «محمد بن الحسن –فيما يأخذه لنفسه– أفقه من مالك». وفي (9|164) عن علي بن المديني قال: سألت يحيى بن سعيد قلت له: «أيما أحب إليك، رأي مالك أو رأي سفيان؟». قال: «سفيان! لا يُشَكُّ في هذا... سفيان فوق مالك في كل شيء، يعني في الحديث وفي الفقه وفي الزهد». وفي (2|302) أن شامياً سأل الإمام أحمد: «من أعلم، مالك أو ابن أبي ذئب؟». فقال: «ابن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك، وابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع ورعاً، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين. وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر، فلم يهبه أن قال له الحق. قال: "الظلم فاشٍ ببابك". وأبو جعفر: أبو جعفر (يقصد في ظلمه وبطشه، حتى أنه قتل عمه)».
وفي تهذيب التهذيب (8|415): قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: «ما فاتني أحدٌ فأسفت عليه ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب». وقال أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: سمعت الشافعي يقول: «الليث أفقه من مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به». وقال أبو زرعة الرازي: سمعت يحيى بن بكير يقول: «الليث أفقه من مالك، ولكن الحظوة لمالك». وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: «الليث أتبع للأثر من مالك». وفي طبقات المحدثين بأصبهان (1|406): عن الربيع عن الشافعي قال: «كان الليث بن سعد أفقه من مالك بن أنس، إلا أنه ضيعه أصحابه». قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (2|11): «فهذان صاحبا مالك رحمه الله (الشافعي ويحيى)ـ وقد شهدا بما شهدا. وهما بالمنزلة المعروفة من الإتقان والورع وإجلال مالك ومعرفتهما بأحواله». ولكن الإنصاف عزيز عند المالكية. فأين بمن يقر منهم بما أقر به هذين الإمامين؟
لم يكن الإمام مالك معروفاً في العهد الأموي الذي عاش فيه ما يقارب الأربعين عاماً، لكنه عُرِفَ أثناء خلافة المنصور الخليفة العباسي حينما اشتد الخلاف بين أهل الرأي في الكوفة (مذهب أبو حنيفة ومذهب الثوري) وبين أهل المدينة (أساتذة مالك). ومن الملاحظ أن الداهية المنصور قد استغل –في أوائل خلافته– النزاع الفكري الذي حدث بين أهل العراق وأهل المدينة، فأخذ يقوي جانب العراقيين ويشد أزر الإمام أبي حنيفة وأصحابه ويستغل الموالي، ليحط بذلك أنفة العرب، وخصوصاً المدنيين منهم الذين كانوا يصرحون بعدم شرعية خلافة بني العباس.
وقد عاش الإمام مالك مستمتعاً بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائياً بنفسه عن السياسة، راغباً عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين، حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالماً (بخلاف ما نقل عنه ابن حزم). وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين... يحاول جهده أن يكون على الحياد.
وبعد أن نجح المنصور في إخماد ثورة "النفس الذكية"، قام واليه بضرب مالك بسبب فتوى مالك للناس أثناء الثورة، ببطلان طلاق المكره. وكان المنصور قد أخذ البيعة على الناس لنفسه بالإكراه وحلف الناس بالطلاق إن نكثوا. ففهم والي المدينة جعفر بن سليمان عمّ المنصور العباسي فتوى مالك (ولا أظنها كذلك) على أنها تحريض على نقض عهدهم، فأمر بضربه بالسياط. مما أثار سخط الناس على الخليفة، فهذا عالم يلتزم الحياد، ينأى بنفسه عن السياسة ودوران دولاتها، ويعكف على العلم. فإذا بالدولة بكل قوتها تبطش به!
فلما بلغ هذا المنصور خاف من عواقب هذا الأمر، فادعى أن ضرب مالك لم يكن بأمره! وبعد أن قام بإخماد ثورة أهل المدينة، رأى أن يتودد إليهم عن طريق عالم معتدل، فوقع اختياره على مالك. فلما ورد المدينة رحّب بمالك وأدناه وأجلسه إليه. فلما وجد استجابة من مالك، أعجب المنصور بذلك، وعرض عليه إجبار عامة المسلمين في كل البلاد على اعتناق مذهبه، لأنه يريد بذلك التخلص من فقهاء العراق المعارضين له.
قال المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه». فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة، ولكن المنصور ألحّ: «ضعه فما أحد اليوم أعلم منك». فقال مالك: «إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل مِصرٍ (أي بلد) بما رأى: فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم». فقال الخليفة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً. فالعلم علم أهل المدينة». فقال مالك: «إن أهل العراق لا يرضون عِلْمَنَا». فقال المنصور: «يضرب عليه عامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط» (انظر ترتيب المدارك: 30). فصنّف مالك كتابه الشهير: «الموطَّأ». هذا والمعروف أن مالكاً قد وضع الموطأ، وما كان يفرغ منه حتى مات المنصور (ترتيب المدارك 1|192)، أي أنه ألفه في أواخر عهد المنصور.
والملاحظ أن جملة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً» فيها إشارة إلى يأسه منهم لكونهم علويين عقيدة يؤيدون بني هاشم، ولوجود أبي حنيفة والثوري بينهم اللذان لم يكونا على وفاقٍ مع الحكام. بل إن أبا حنيفة متهم بتحريض الناس على الانضمام إلى ثورة "النفس الذكية". وقد أبقاه المنصور في السجن حتى الموت. أما سفيان الثوري فقد حاول المنصور اعتقاله لكنه اختفى. وكان أكثر فقهاء أهل العراق معارضين للمنصور. ولأجل ذلك نرى المنصور يولي مالكاً عناية خاصة، ويطلب منه أن يكتب الموطأ، ويقول له في خبر آخر: «لنحمل الناس –إن شاء اللّه– على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها». وقال له (كما في تذكرة الحفاظ 1|290): «لئن بقيتُ، لأكتبنّ قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه».
ومما شجّع العباسيين على نشر مذهب مالك، أنه كان يرى مساواة علي t لسائر الناس. فكان يقول بأن أفضل الأمّة هم أبو بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) ثم يقف ويقول: «ثم استوى الناس!» (انظر: ترتيب المدارك (1|45)، رواية أبي مصعب)، وفي رواية أخرى: «هنا وقف الناس. هؤلاء خيرة أصحاب رسول الله r. أمّر أبا بكر على الصلاة، واختار أبو بكر عمر، وجعلها عمر إلى ستة، واختاروا عثمان، فوقف الناس هنا». وزاد في رواية: «وليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه». فهل يمكن أن نتساءل هل فعلا وقف الناس بعد عثمان؟ أليس علياً من الخلفاء الراشدين؟ ألم يذهب الأنصار والمهاجرون لمبايعته؟ فكيف وقف الناس؟ فإن قيل أنه لابن عمر t في الحديث الصحيح المرفوع الذي رواه حيث قال: «كنا نقول على عهد رسول الله r: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت». يعني فلا نفاضل. فقد يقال: لكن قوله: «وليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه» فيه تعريض بعلي رضي الله عنه، واتهام له بأنه طلب الخلافة في سبيل الدنيا. وكانت المدينة قد ثارت زمن المنصور مطالبة بالحكم لأحد سلالة علي t المسمى بالنفس الذكية. وبذلك كانت الدولة العباسية مضطرة لإظهار هذه الرأي، ومحتاجة لنشره. وقد احتاجت إليه الدولة الأموية في الأندلس في ما بعد، عندما ظهر الأدارسة (من نسل الحسن) وشكلوا تهديداً لهم. كما أنه لم يرو عن أهل البيت مثل علي وابن عباس إلا النادر، مع أنهما عاشا في المدينة غالب حياتهما، وذرية علي سكنوا المدينة، وحديثه موجود عندهم لو أراد مالك روايته.
لكن المنصور توفي فور انتهاء مالك من كتابه. فجاء ولده المهدي من بعده ليكمل نفس الخطة. جاء في سير أعلام النبلاء (8|78): عن إبراهيم بن حماد الزهري، قال: سمعت مالكاً يقول: قال لي المهدي: «ضع يا أبا عبد الله كتاباً أحمِلُ الأُمّة عليه». فقلت: «يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع –وأشرتُ إلى المغرب– فقد كفيته. وأما الشام ففيهم من قد عَلِمت –يعني الأوزاعي–. وأما العراق فهم أهل العراق». يشير إلى تمكنه من فرض مذهبه في الحجاز وإفريقيا، وعجزه عن فرضه في الشام، لوجود إمامها الأوزاعي، وعجزه عن فرضه في العراق (خاصة الكوفة وبغداد)، لشدة كراهية العراقيين لمذهبه. وهنا اقتنع العباسيون بضرورة وجود مفتي ثاني عراقي موالٍ لهم، فكان اختيارهم لأبي يوسف، كما سيمر.
وروى أبو نعيم في "الحلية" (كما في كشف الظنون 2|1908) أن هارون الرشيد أراد أن يعلّق الموطّأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه! وجاء في مفتاح السعادة (2|87): لما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: «ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن». وهي في حلية الأولياء (6|331) لكن ذكر فيها المأمون بدلاً من الرشيد، وهو خطأ، والأول أصح.
فالخلفاء رغم جهودهم المتواصلة لم يتمكنوا من احتواء الإمامين سفيان الثوري وأبي حنيفة. أما الإمام مالك فقد تعاون مع السلطة ودخل في سلكها بعد الفتنة والإطاحة بثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم، فدوّن لها الموطأ. هذا مع العلم أنه كانت هناك كتب فقهية حديثية، على نمط موطأ مالك، قد كتبها فقهاء قبله. وأشهرها موطأ ابن أبي ذئب، وكتاب عبد العزيز الماجشون. ونحن نعلم بأن الإمام مالكاً –وقبل توجُّه الحكومة إليه– لم تكن له تلك المكانة. بل إن والده أنس بن مالك بن أبي عامر لم يكن معروفاً عند العلماء، ولم يفصح التاريخ بشيء -ذي قيمة- عن حياته ولا تاريخ وفاته. وروايته للحديث قليلة جداً، وإن كان ثقة. بل كل ما كان يقال عنه بأنه أخو النضر المقرئ.
ونقل أبو بكر الصنعاني: أتينا مالك بن أنس فحدثنا ربيعة الرأي –وهو أُستاذ مالك ومعلمه– فكنا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: «ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟». فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف يُحْظَى بِكَ مالِكُ، ولم تُحظَ أنت بنفسك؟ فقال: «أما علمتم أن مثقالاً من دولة، خيرٌ من حِمل علم». انظر: طبقات الفقهاء لأبي إسحاق (ص54)، و تاريخ بغداد (8|424). وفي هذا النص إشارة إلى دور السياسة والحكومة في ترسيخ المذاهب وتقديم المفضول مع وجود الفاضل. وقد جاء في تاريخ بغداد (8|425) أن أبا العباس أمر لربيعة الرأي بجائزة فرفض أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فامتنع عن قبولها. وجاء في صفوة الصفوة (2|151) أن الخليفة السفاح عرض عليه القضاء فأبى. فهذا سبب أُفول نجم ربيعة، وبروز تلميذه مالك الأقل علماً منه. لكن الحكام تمكنوا –بمرور الأيام– من احتواء نهج الإمام أبي حنيفة النعمان، بتقريبهم لأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللؤلؤي، وإناطة القضاء والإفتاء بهم. وكان ذلك بالطبع بعد وفاة شيخهم النعمان.
واتخاذ هذا الموقف من قِبَلِ مالك لمصالح الحكام، جعل أُستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه، لأنه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم. فلذلك هجر الناس –تبعاً للحكومة– ربيعة الرأي، والتفوا حول مالك. فاستجاب مالك لطلب المنصور، وألف "الموطأ" مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيبون لما كتبه، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليه بالقوة والسلطان! فصار "الموطأ" دستور الحكومة، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية. وروى أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبينه. وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك. واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه، والهدف هو رفع شأن مالك أمام العوام.
وقد ثبت في التاريخ أن السلطة حصرت الإفتاء أيام الموسم بمالك. وجاء عن مالك انه كان يعترض على من يخالف رأيه وإجماع أهل المدينة (المزعوم)! فقد جاء في كتابه إلى الليث بن سعد (كما في ترتيب المدارك 1|36): «اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة، مخالفه لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه...». قال الدهلوي في "حجة الله البالغة" (1|152): «فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسُدَّ إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض: لم يزل ينتشر كل حين. وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس: اندرس بعد حين». والمنصور بتقريبه مالكاً وإعطائه المكانة العليا، ومحاولة توحيد الحديث والفقه على يده، قد قلّل من نفوذ الآخرين. ومنذ أواخر عهد المنصور وحتى أواخر عهد الرشيد تمكنت الحكومة من السيطرة على الاتجاهين: فقه العراق وفقه الحجاز، وذلك بتقريبهم أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني في بغداد وتقليدهم منصب القضاء، ووجود مالك في المدينة من قبل في ركابهم.
وبعد لقاء المنصور بمالك، أصبح مالك بعد ذلك يعد من رجالات الخليفة، حتى أصبح الولاة يخشونه بعدما أصبح أمْر عزلهم على يد مالك سهلاً. حتى أن المنصور قال له: «إن رابك ريبٌ (شكٌّ) من عامل المدينة أو مكة أو عمال (أي ولاة) الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك، أو سواء أو شر بالرعية، فاكتب إلي أنزل بهم ما يستحقونه». و استمر تعظيم مالك في أواخر حكم الخليفة المنصور. وفي عهد الخليفة المهدي والرشيد أصبح لمالك سلطة تنفيذية يستطيع ضرب وسجن من يشاء (انظر مناقب مالك للزاوي ص30). وكان مالك قد أفتى بجواز ضرب المتَّهم، فلقي أثر تلك الفتوى الاستحسان لدى الخلفاء العباسيين، وعُرف ذلك فيما بعد بالمصالح المرسلة في الفقه المالكي. وكان مالك يعمل جولات تفقدية في السجون ويصدر الأوامر بالضرب والقطع والصلب (انظر كتاب مالك بن أنس لأمين الخولي ص139).
وبذلك صار ذا منزلة ومكانة في الدولة، وقد اعتنى به المنصور وغيره من خلفاء بني العباس، حتى رووا عن ابن وهب، قال: حججت سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ، أي في وسط خلافة المنصور) وصائح يصيح: «لا يفتي الناس إلاّ مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة (الماجشون)». وقد توفي الماجشون قبل مالك بزمن، فلم يعد له منافس. وقد ساعد ذلك في انتشار مذهب مالك، واتساع دائرته، خاصة في شمال إفريقيا (القيروان) حيث لم يكن له منافس. ثم منها انتشر فيما بعد إلى إفريقيا الغربية والوسطى. وكان الناس يأتون من إفريقيا للحج، فلا يجدون فقيهاً تجيز له الدولة الفتوى إلا مالكاً، فأخذوا مذهبه. بل انتشر في مصر كذلك بعد وفاة إمامها الليث، حيث ساهم تلامذة مالك في إتلاف كتبه وتضييع فقهه، رغم أنه كان أفقه من مالك، كما نص الشافعي وغيره. أما في العراق، فقد وصل مذهبه إلى بغداد والبصرة، لكنه كان يواجه منافسة قوية من فقهاء العراق، رغم محاولة فرضه بالقوة. وكذلك في الشام جوبه بمذهب الإمام الأوزاعي.
قال العلامة ابن خلدون المالكي في "مقدمته" الشهيرة (ص449، ط دار القلم): «وأما مالك رحمه الله تعالى، فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم (كالبصرة وبعض أطراف الجزيرة). إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق. ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة يومئذ. وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه، دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته. وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضّاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب» (وقريباً منه في طبعة دار الهلال). ويقصد بذلك أن المذهب المالكي كان مجرد أسئلة وأجوبة مختصرة دون أدلة ومناظرات وقواعد وردود على الخصوم. ولم تكن له كتب أصول، وإنما كُتبت بعد عصور من وفاة الإمام مالك بالتدريج. والأصول الفقهية عند مالك بلغت عشرين عند الهسكوري الفاسي، لكنها زادت إلى الألف والمئتين عند المَقًّرِي وغيره! وما أعلم إلى أي عدد وصلت إليه اليوم.
وقد انتشر مذهب مالك –بعد وفاته– في الأندلس على يد يحيى بن يحيى بن أبي عيسى. وكان يحيى هذا مكيناً عند السلطان (عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأبيه من قبل) وكان يختار للقضاء من هم على مذهبه، فأقبل الناس إليه. وتوفي بقرطبة سنة (234 هـ). وبذلك تم بالقوة استبدال مذهب الأوزاعي في الأندلس بمذهب مالك، مع منع المذاهب الأخرى. وبذلك نفهم سبب المعارضة الشديدة لابن حزم الذي حاول –عبثاً– تغيير التعصب و الجمود الفكري عند المالكية في الأندلس.
يقول ابن حزم في مجموع رسائله (ملحق #13، 2|229): «مذهبان انتشرا عندنا –في أول أمرهما– بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف، كانت القُضاة من قِبَلِهِ من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية. فكان لا يولّي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه. ومذهب مالك –عندنا بالأندلس–. فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة. وكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس، إلا بمشورته واختياره. ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه! والناس سُرّاعٌ إلى الدنيا. فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به... وكذلك جرى الأمر بافريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر».
مع العلم أن رواية يحيى بن يحيى (التي فرضها السلطان) ليست رواية جيدة للموطأ. بل أفضل رواة موطأ مالك هم: القعنبي ثم معن ثم ابن وهب وعبد الله بن يوسف ثم محمد بن الحسن الشيباني. وتمتاز رواية ابن وهب بأنه أقدم من روى عن مالك. وتمتاز رواية محمد بن الحسن بذكرها للأقوال الفقهية لمالك، ومناقشتها من وجهة نظر الأحناف. وتمتاز رواية أبي مصعب بأنها أكبر الروايات ومن أواخرها. أما رواية يحيى بن يحيى الليثي فقد اشتهرت لأنه آخر من روى عن مالك، وفيها الكثير من الآراء الفقهية لمالك (وليست كلها سماعاً من مالك كما هو معروف، بل كثير منها عن أصحابه). لكن فيها أخطاء كثيرة. وقد أوصل إبراهيم بن حمد بن باز وحده أخطاء يحيى الليثي إلى ثلاثمئة خطأ (أكثرها في الأسانيد)، وهو من رواة الموطأ عنه. والسبب هو قلة ضبط يحيى. قال ابن حجر عنه: «صدوق فقيه قليل الحديث له أوهام»، وليس فيه توثيق إلا قول ابن عبد البر المالكي: «كان ثقة عاقلاً ... ولم يكن له بصرٌ بالحديث». وقال في موضع آخر: «إلا أن له وهماً و تصحيفاً في مواضع كثيرة».
وسبب تَبَنّي حاكم الأندلس لمذهب مالك، هو أن مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً. فقال للأندلسي: «نسأل الله تعالى أن يُزيِّنَ حَرَمَنا بملِكِكُم». فبلغ هذا ملك الأندلس، فحمل الناس على مذهب الإمام مالك وترك مذهب الإمام الأوزاعي. وانظر نفح الطيب (3|239). هذا بالإضافة لأمور أخرى مثل بجواز ضرب البريء المتَّهم، وموقفه من علي بن أبي طالب t كما مر سابقاً. وهو الموقف الذي قال عنه أبو زهرة: «إن ذلك الحكم يدل على نزعة أموية».
وبذلك أصبح مذهب الإمام مالك، هو المذهب الرسمي للدولة الأموية في الأندلس. وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من أتباع الإمام مالك. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة. قال الباحث المالكي د. عبد الهادي حميتو في "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (1|162): «ولقد غدا الأخذ بمذاهب المدنيين شعار الدولة في الأندلس، وتجاوز الأمر فيه مستوى الاقتناع والإقناع بجدارته وأحقيته، إلى مستوى الإلزام الذي لا خيار فيه لأحد في الميدان الفقهي والعملي، ابتداء من حياة مالك حيث كانت الخطوات الحثيثة نحو ترسيمه، وانتهاء إلى عهد القوة والملك العريض الذي تأثل لأمويي الأندلس في المئة الرابعة على أيام عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر والحاجب المنصور بن أبي عامر». قال (1|179): «ويتجلى طابع القسر والإلزام في هذه الأوامر الرسمية التي كانت تصدر في هذا الصدد من الحكم، في المنشور الخلافي الآخر الذي بعث به الحكم المستنصر الأموي إلى الفقيه أبي إبراهيم، ومما جاء فيه قوله: "وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رين على قلبه، وزين له سوء عمله، وقد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف في أخبارهم إلى يومنا هذا، فلم نر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه"... أي تحول عندهم الانحراف عن مذهب مالك: انحرافاً عن الدولة نفسها، ورغبة بالخروج عليها».
وهذا الحكم يصرح بذلك في منشور له جاء فيه: «ومن خالف مذهب مالك في الفتوى، وبلغنا خبره، أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد مذهبه غير معتقد للسنة والجماعة، فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا الناس أشد النهي عن تركه، ففي العمل بمذهبه جميع النجاة» (المعيار 12|26). حتى قيل في أهل الأندلس انهم لا يعرفون سوى كتاب الله وموطأ مالك بن أنس، كما ذكر المقدسي في "أحسن التقاسيم" (ص177). و ذكر المقري في نفح الطيب (4|202) من رسالة إسماعيل الشقندي في "فضل الأندلس" أنهم «كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم».
كما أن مذهب مالك، اصطدم –لاحقاً– في القيروان بمذهب أبي حنيفة، ودار صراع بين المذهبين. ومما ساهم في تفضيل مذهب مالك على مذهب أبي حنيفة، كون الأخير قد استولى عليه (بعد وفاة القاضي السلفي أبو يوسف) طائفة من المعتزلة القائلين بخلق القرآن من أمثال ابن أبي داؤود وأضرابه. حيث «كان فقهاء المالكية في جميع أقطار الشمال الافريقي وقفوا ضد تسرب مبادئ المعتزلة. بل انهم اتخذوا موقف عداء من الدولة الأغلبية لانحيازها لفقه أهل العراق ومبادئ المعتزلة» كما يذكر د عباس الجراري في أسباب انتشار المذهب المالكي ندوة القاضي عياض (1|180). حتى جاء العبيديون الرافضة فاستولوا على تونس. وبعد أن استقل عنهم المعز بن باديس، قضى على المذهب الحنفي، وفرض المذهب المالكي فقط. قال المؤرخ ابن خلكان كما في "وفيات الأعيان" (5|233): «وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه بإفريقية (يقصد تونس) أظهر المذاهب. فحمل المعز بن باديس الصنهاجي جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في المذاهب! واستمر الحال في ذلك إلى الآن».
وكذلك تبنى المرابطون في موريتانيا مذهب مالك لأنهم تلقوا العلم من مشايخ القيروان (بسبب قربها الجغرافي)، ونشروا مذهبه في إفريقيا الوسطى وإفريقيا الغربية. يقول المراكشي في "المعجب" (ص254) عن علي بن يوسف بن تاشفين : «ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من علم الفروع، أعني فروع مذهب مالك. فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، حتى نسي النظر إلى كتاب الله وحديث رسول الله r».
لم يكن مالك في حقيقة الأمر صاحب مذهب مؤسس على قواعد واضحة، وإنما كان شيخاً يفتي، ثم تحول في أواخر حياته إلى رجل تنفيذي في الدولة العباسية. وبالمفهوم الحديث يمكن القول أنه كان وزيراً للعدل والشئون الدينية، لكن تلامذته هم الذين أسسوا المذهب المالكي بعد وفاته، كما حدث في المذهب الحنفي.
غير أن بعض معاصري الإمام مالك عارضوه معارضة عنيفة. وخالفه ونقده بعض أصحابه، منهم الإمام الليث بن سعد فقيه مصر، وتلميذه الإمام الشافعي (في كتاب مشهور) حتى قال عنه أنه: «يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل». وقال كذلك في كتاب "اختلاف الحديث" عن إجماع أهل المدينة: «قال بعض أصحابنا (يعرض بمالك): "إنه حُجة". وما سمعت أحداً ذكر قوله، إلا عابه. وإن ذلك عندي معيب». ولقد أرسل إليه صاحبه الليث بن سعد رسال
الأربعاء مايو 19, 2010 7:43 pm من طرف admin
» افتراضي قالوا عن الاسلام...............
الأربعاء مايو 19, 2010 7:41 pm من طرف admin
» Smile حصريآ البرنامج الأول لمكافحه الفيروسات وإزالتها :: Avast! Professional 4.8.1368 :: بأخر إصدار بحجم 40 ميجا + الكيجن + السيريال ,, علي اكتر من سيرفر
الأربعاء مايو 19, 2010 7:39 pm من طرف admin
» Cool حصريا عملاق ادارة الخلطات الخرسانيه AUTODESK REVIT ARCHITECTURE 2011 x32/x64 + الكراك تحميل مباشر ع اكثر من سيرفر
الأربعاء مايو 19, 2010 7:37 pm من طرف admin
» برنامج منع ظهور الصور الإباحية لحماية أبنائكـ على النت
الأربعاء مايو 19, 2010 3:20 am من طرف admin
» هنبدأ بالنسخ الاصليه
الأربعاء مايو 19, 2010 3:15 am من طرف admin
» برنامج هكر عربى قوى جدا
الأربعاء مايو 19, 2010 3:10 am من طرف admin
» برامج هكر عربية تغنيك عن برامج الهكر الغرب
الأربعاء مايو 19, 2010 3:07 am من طرف admin
» حصريا :: لعبه الرعب والاثاره الرئعه جدا Black Mirror 2 بحجم 3 جيجا وعلى اكثر من سيرفر مباشر ..
الثلاثاء مايو 18, 2010 8:47 pm من طرف admin